رسالة في بيان مراتب الموجودات في الموجودية

للسيد الشريف الجرجاني

(ترجمها من الفارسية الى العربية كمال بن شهاب الدين النيسابوري)


بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، الحمد لله المتوحد بوجوب الوجود الذي ليس له الى الامكان طرف ، ونعوت الكمال التي بها مدح ذاته ووصف ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد الذي اصطفاه بأنواع الألطاف وأصناف اللطف ، وعلى آله وأصحابه الذين خصوا بخصائص القربات ولطائف الزلف.

وبعد ، فإن الرسالة المؤلفة بالعبارة العجمية في تحقيق المباحث الوجودية والمقاصد الأصولية للسيد المحقق والنحرير المدقق ، مكمل علوم الاولين ، قدوة أفاضل المتأخرين ، المخصوص بمواهب الملك اللطيف ، أبي الفضائل علي المدعو بالسيد الشريف ، تغمده الله تعالى بغفرانه وأسكنه أعلى غرف جناته ، رسالة شريفة ودرة لطيفة صغيرة الحجم كثيرة القدر ، فعربتُها لأن هذه اللغة أفصح وانتفاع أهلها بها أيسر وأنجح ، سائلا من الله تعالى العفو والتيسير ، إنه بلإجابة جدير وعلى كل شيء قدير.

اعلم ، وفقك الله تعالى وإيانا ، أن أصحاب النظر مثلوا لبيان مراتب الموجودات في الموجودية بالاشياء النورانية على ثلاث مراتب . المرتبة الاولى أن يكون نور الشيء مستفادا من الغير كوجه الارض فإنه ينوّر بشعاع الشمس عند المقابلة ، وفي هذه المرتبة ثلاثة أشياء ، الاول وجه الارض ، الثاني الشعاع الواقع عليه ، والثالث مقابلة الشمس المفيدة للشعاع . ولا يشتبه على أحد أن هذه الأشياء الثلاثة متغايرة وان زوال الشعاع عن وجه الارض ممكن بل واقع . المرتبة الثانية ان يكون نوره مقتضيا لذاته كالشمس على تقدير ان يكون ذاتها مقتضية لنورها، وفي هذه المرتبة شيئان ، أحدهما جرم الشمس ، والثاني ضوءه ، وهما متغايران ، واذا كان جرم الشمس مستلزما للضوء على ما ذكرنا فلا يجوز انفكاك الضوء منه . المرتبة الثالثة ان يكون نوره بذاته لا بنور زائد على ذاته ، كالضوء فإنه مضيء بذاته لا بنور آخر زائد على ذاته، إذ لا يخفى على عاقل ان ضوء الشمس ليس بمظلم بل هو مضيء بذاته لا بضوء آخر قائم به . وفي هذه المرتبة شيء واحد ظاهر بنفسه على أعين الناس ، وما عداه مضيء بمقدار قابليته له ، وليست مرتبة في النورانية أعلى من المرتبة الثالثة.

واذا تصورت هذه المقدمة في المحسوسات فاعلم ان الوجود نور معنوي والاشياء الموجودة في كونها موجودة تنقسم بالتقسيم العقلي الى ثلاثة مراتب . المرتبة الاولى ان يكون وجودها مستفادا من الغير كما هو المشهور في الماهيات الممكنة ، ففيها ثلاثة اشياء : الاول ذات الماهية الممكنة والثاني وجودها الذي هو مستفاد من الغير والثالث ذلك الغير الذي أفاض الوجود عليها ، ولا شك في ان انفكاك الوجود من مثل هذا الموجود بالنظر الى ذاته جائز بل واقع.

المرتبة الثانية ان يكون ذاته مقتضيا لوجوده على وجه يكون انفكاك الوجود من ذاته محالا ، وهذا حال واجب الوجود على مذهب جمهور المتكلمين . وفي هذه المرتبة شيئان : الاول ذات الواجب والثاني وجوده المستفاد من ذاته ، ولا يخفى ان انفكاك الوجود من هذا الموجود بالنظر الى ذاته محال ، لكن تصور الانفكاك ممكن بناء على تغاير الذات والوجود.

المرتبة الثالثة ان يكون موجودا بوجود هو عين ذاته كحقيقة الوجود ، اذ لا شبهة في ان حقيقة الوجود في غاية البعد من العدم ، وقياس بعده منه على قياس بعد النور من الظلمة . وكما ان النور بذاته منير ومحال ان يكون مظلما كذلك الوجود أيضا بذاته موجود ومحال ان يكون معدوما . وفي هذه المرتبة شيء واحد موجود بذاته وما عداه موجود به بحسب قابليته للوجود كما علم ان الضوء مضيء بنفسه وما عداه من الاشياء مضيء به . وفي هذه المرتبة لا يمكن تصور الانفكاك بين الذات والوجود بناء على اتحادهما ، وليست مرتبة في الموجودية أعلى من هذه المرتبة ، وهذا حال واجب الوجود على مذهب المتقدمين وعلى مذهب الصوفية الموحدين.

ولذا قال المتقدمون إن واجب الوجود وجود بحت ، أي ليس فيه شيئان ، الاول الذات والثاني الوجود الذي هو عارض لها ، بل الواجب عين الوجود الذي هو قائم بذاته . ومذهب الصوفية الموحدين في اتحاد الذات والوجود مشهور . وهذا ، أي كون الواجب عين الوجود ، من المتفق عليه بينهما فإن بداهة العقل جازمة بأن واجب الوجود لا بد ان يكون في المرتبة العليا من المراتب الوجودية بحيث لا يكون مرتبة فيها أعلى وأقوى من مرتبته إذ لو كانت مرتبة من المراتب أعلى من مربتة الواجب في الموجودية لكانت تلك المرتبة أولى بالواجب . وقد علم ان المرتبة العليا في الموجودية المرتبة الثالثة وهي ان يكون وجود الشيء عينه . فوجود الواجب لا يكون إلا عينه كما اتفقا.

وبعد الاتفاق على ذلك قال المحققون من المتقدمين الذين هم أصحاب النظر ، ومرشدهم في طريق المعرفة الربانية العقل ، قد ثبت بالبرهان ان الواجب حقيقة الوجود وقد علم أيضا بدلالة العقل ان واجب الوجود لا يجوز ان يكون أمرا كليا أي أمرا يعرض له الكلية والعموم لان الوجود الذي هو عينه لو كان أمرا كليا لم يتصور تحققه في الخارج بدون التعين فيلزم ان يكون الواجب مركبا من الامر الكلي والتعين ، وتركب الواجب محال كما بين في المطولات ، بل يجب ان يكون الواجب جزئيا حقيقيا ومتعينا بذاته او يكون تعينه عين ذاته كما ان وجوده عين ذاته حتى لا يتصور التعدد والتركب فيه بوجه من الوجوه.

ويجب ان يكون قائما بذاته لانه لو لم يكن قائما بذاته يكون محتاجا الى الغير واحتياجه محال . واذا تقرر ان وجود الواجب عينه فيكون الوجود أيضا متعينا في حد ذاته وجزئيا حقيقيا وقائما بذاته لان تعدد حقيقة الوجود بحسب الأفراد وعروضها للماهيات الممكنة من قبيل المحالات.

وقد تحقق من هذه المقدمات ان واجب الوجود هو الوجود المطلق ، والمراد من المطلق ههنا ان لا يكون عارضا للماهية بل يكون قائما ومتعينا بذاته وعاريا عن التقيد بغيره . وعلم منها أيضا ان اطلاق لفظ الموجود على غير الواجب مجاز لان الوجود ليس جزء ولا عينا ولا عارضا لغيره فمعنى كون الأشياء موجودة ان لها نسبة الى حضرة الوجود القائم بذاته وعليها فيضان حضرة الوجود ، لا ان الوجود عارض لها او داخل فيها . هذا ما عليه أرباب النظر وبلغوا اليه بأفكار العقل.

واما الصوفية الموحدون فيقولون إن وراء طور العقل طور آخر لا يتوصل اليه الا بالمشاهدات الكشفية دون المناظرات العقلية ، والعقل عاجز عن إدراكه كعجز الحواس عن إدراك المعقولات التي هي مدركات العقل.

(نقلت هذه الرسالة من مخطوطة يهودا 5373 بمكتبة جامعة برنستون)